عجيبٌ أمر هذا الرجيــل .. لم أجد أبداً نموذجاً للإخــلاص يـجاوزه .. أو حتى يطاوله ويحاول الاقــتراب من عليائه وشموخـه ..
إنه مسـلم آل فرعـون .. ظلّ يـدعو قـومه للإيـمان بالتي هي أحســن .. وهم يردون عليه بأسـوأ الردود .. يجادلهم ويحاول الاقتــراب منهم وإثــنائهم عن عنــادهم بلا فائدة .. ظلّ يدعوهم إلى النجاة فيدعونه إلى النـار .. يدعوهم ليؤمنوا بالله وحده حتى كرهوه وعذبوه ، ثم قتــلوه بأبشع طريقة ممـكنة .. ولكن عجيبٌ أمر هذا الرجــل .. إخلاص فوق الحدود لمـن آذوه أعظم إيذاء .. إخــلاص لا حدود لله ولا نظــير .. كرهوه ونبذوه وعذبوه حتى المـوت ، ثم ـ وبعـد مقتله على يدِ قـومه ـ قيل له " ادخـل الجنــة " .. فقــال " يا ليت قومي يعلمون " !! .. أية عظمة هذه ؟؟ .. أيـة أخـلاق .. أية روح كريمة حميــمة ؟؟؟ .. أي قلبٍِ مرهف النبـضات ؟؟ .. أي عيـن رطبة الدمـوع ؟؟ ..
كيـف استطاع أن يتمنى الخيـر لهم بعد كل ما فعلوه ؟؟ .. حقاً لا أستطيـع وصف عذابهم له من شـدّة بشاعته .. فكيف واتته الجرأة أن ينطق بمثل هذه الكلمات ؟؟
ماذا لو كان أحدنا مكانه ؟؟ .. هل كـان سيغفر لهم بهذه السهولة ويقولها بهذه البســاطة " يا ليت قومي يعلمون " ؟؟!! .. عجيبٌ أمره حقاً .. ظلّ مخلصاً لقومه حتى بعد الموت ، ظل مخلصاً لدعوته إلى عبادة الله وحده حتى بعد أن أذن له بدخـول الجنــة !! ..
كيـف ضاعت هذه الروح منا ؟؟ .. كيـف تسربت من بــين أيدينا ؟؟ .. بل كيـف نحيا بدونها وكأننا لا نحتاجها في حياتنا ؟؟
أين إخلاصنما في العمل ؟؟ .. في العبادات ؟؟ .. لقد رأى الأئمة الكبار أن أبسط العبادات إذا تمـّـت على أكمل وجه من الإخلاص فإنه الله يـغفر بها كبائر الذنـوب !!
فعـن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يُصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يـُـقال : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول: لا يا رب، فيقال : أفلك عذر أو حسنة فيها؟ فيقول الرجل: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " ( صححه الذهبي ) .
يا لله !! .. تسعة وتسعون سجلاً .. يمـتدّ كلّ سجلٍ منها على مدى البـصر .. وبالمقابل شهادة قد نقولها في كل لحظة .. قد نسـجل بها حضورنا في هذا المنتدى .. ولكن الأخرى انطلقت من قلبٍ نقيّ مخلص .. قلبٍ يفهم ما ينطقه .. قلبٍ يدرك أن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب عندها تكون صورة العملين واحدة ، ولكن بينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض !!
تسعة وتسعون سجلاً لا تستوعب إحداها العين .. تطيـش جميعاً في الهواء !! .. والمصيبة أننا لسنا كذلك وأنه قد يحث معنا العكس تماماً ؛ قد نصلي ونصـوم ونقرأ القرآن ونحـاول أن نتمسـّـك بديننا ، ولكن نظلّ كما نحن بلا إخلاص .. عندها قد يحدث معنا العكس تماماً .. قد يحدث ما جاء في حديث حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ إذ قال : سمعت رسول الله يقول : " إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به، فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به يعرفه نعمه فعرفها ، قال فما عملت ؟ قال تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ألا أنفقت فيها قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" ( رواه مسلم ) .
ولكن المصيبة الأعظم أن بعضنا قد يدرك كل هذا وأكثر .. يدرك أن الإخلاص روحٌ للـعمل والعبادة ولكنه لا يـبالي .. كأنهم لم يسـمع قصة ذلك الرجل الذي لاقى من قومه ما لاقاه من الإذلال والعذاب ، ثم أدخله الله إلى جنانه فقال " يا ليت قومي يعلـمون " .. حقاً عجيبٌ أمر هذا الرجـل .. ولكن أمرنا أعــجب !!!
راجيه الفردوس عضو ذهبى
عدد الرسائل : 299 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 28/03/2008